فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بطغواها}
استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دساها} [الشمس: 10] وجعل الزمخشري قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ} إلخ تابعاً لقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا} إلخ على سبيل الاستطراد وأبى أن يكون جواب القسم وجعل الجواب محذوفاً مدلولاً عليه بهذا كأنه قيل ليدمدمن الله تعالى على كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً عليه السلام فقيل إن ذلك لما يلزم من حذف اللام وأنه لا يليق بالنظم المعجز أن يجعل أدنى الكمالين أعني التزكية لاختصاصها بالقوة العملية المقصود بالإقسام ويعرض عن أعلاهما أعني التحلية بالعقائد اليقينية التي هي لب الألباب وزبدة ما مخضته الأحقاب ولو سلم عدم الاختصاص فهي مقدمة التحلية في البابين وأما حذف المقسم عليه فكثير شائع لاسيما في الكتاب العزيز وتعقب بأن حذف اللام كثير لاسيما مع الطول وهو أسهل من حذف الجملة بتمامها وقد ذكره في {قد أفلح المؤمنون} [المرمنون: 1] فما حدا مما بدأ وأن التزكية مراداً بها الإنماء لا اختصاص لها وليست مقدمة بل مقصودة بالذات ولو سلم فلا مانع من الاعتناء ببعض المقدمات أحياناً لتوقف المقاصد عليها فتدبر.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال في {فألهما} ألزمها وأخرجه الديلمي عن أنس مرفوعاً وعلى ذلك قال الواحدي وصاحب المطلع الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان فإذا أوقع سبحانه في قلب عبد شيئاً منهما فقد ألزمه سبحانه ذلك الشيء ويزيد ذلك قوة ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عمران بن حصين «أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال عليه الصلاة والسلام لا بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سواها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} [الشمس: 7، 8]».
ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لقدرة العبد واختياره مدخل في الفجور والتقوى بالكلية وإن قيل أن مآله إلى خلق الله تعالى إياهما ليقال يأباه حينئذٍ قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها} [الشمس: 9] إلخ حيث جعل فيه العبد فاعل التزكية بالتقوى والتدسية بالفجور لأن الإسناد يقتضي قيام المسند ويكفي فيه المدخلية المذكورة ولا يتوقف صحة الإسناد حقيقة إلى العبد على كون فعله الإيجاد فالاستدلال بهذا الإسناد على كونه متمكناً من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى وإيجاده إياه بقدرة مستقلة فيه على خلاف ما يقوله الجماعة ليس بشيء على أن الضمير المستتر في {زكاها} وكذا في {دساها} الله عز وجل والبارز لمن بتأويل النفس.
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك يقول الله تعالى: قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه فهداه وقد خاب من دسى الله تعالى نفسه فأضله.
بل أخرج عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها} الآية أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس خيبها الله تعالى من كل خير».
وأخرج الأمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها».
وفي رواية الطبراني وغيره عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام إذا تلا هذه الآية وقف وقال ذلك. ولهذه الأخبار ونحوها قال بعضهم: إن ذلك هو المرجح ورجحه صاحب الانتصاف بأن الضمائر في {والسماء وما بناها} [الشمس: 5] إلخ تكون عليه متسقة عائدة كلها إلى الله تعالى وبأن قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14] أوفق به لأن تزكي مطاوع زكي فيكون المعنى قد أفلح من زكاه الله تعالى فتزكى ومع هذا كله لا ينبغي أن ينكر أن المعنى السابق هو السابق إلى الذهن وما ذكر من الأخبار ليس نصاً في تعيين المعنى الآخر نعم هو نص في تكذيب الزمخشري في زعمه أنه من تعكيس القدرية يعني بهم أهل السنة والجماعة فتأمل.
والطغوى مصدر من الطغيان بمعنى تجاوز الحد في العصيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واواً في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا في الصفة امرأة صديا وخزيا وفي الاسم تقوى وطغوى كذا في (الكشاف) وغيره وكلام الراغب يدل على أن طغى واوي ويائي حيث قال يقال: طغوت وطغيت طغواناً وطغياناً فلا تغفل.
والباء عند الجمهور للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول ظلمني الخبيث بجرائته على الله تعالى وجعلها الزمخشري للاستعانة والأمر سهل وجوز أن تكون صلة للتكذيب على معنى كذبت بما أوعدت به في لسان نبيها من العذاب ذي الطغوى أي التجاوز عن الحد والزيادة ويوصف العذاب بالطغيان بهذا المعنى كما في وقوله تعالى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] وقد يوصف بالطغوى مبالغة كما يوصف بسائر المصادر لذلك فلا يكون هناك مضاف محذوف.
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة {طغواها} بضم الطاء وهو مصدر أيضاً كالرجعى والحسنى في المصادر إلا أنه قيل كان القياس الطغيا كالسقيا لأن فعلى بالضم لا يفرق فيه بين الاسم والصفة كأنهم شذوا فيه فقلبوا الياء واواً وأنت تعلم أن الواو عند من يقول طغوت أصلية.
{إِذِ انبعث} متعلق بـ: {كذبت} أو بطغوى وانبعث مطاوع بعثه بمعنى أرسله والمراد إذ ذهب لعقر الناقة {أشقاها} أي أشقى ثمود وهو قدار بن سالف أو هو ومن تصدى معه لعقرها من الأشقياء اثنان على ما قال الفراء أو أكثر فإن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به ولخبائث غير ذلك يعلمها الله تعالى فيهم هي فوق خبائث من عداهم.
{فَقَالَ لَهُمُ} أي لثمود أو لـ: {أشقاها} على ما قيل بناءً أن المراد به جمع ولا يأباه و{سقياها} كما لا يخفى {رَسُولِ الله} هو صالح عليه السلام وعبر عنه بعنوان الرسالة إيذاناً بوجوب طاعته وبياناً لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في قوله سبحانه: {نَاقَةُ الله} وهو نصب على التحذير وشرطه ليس تكرير المحذر منه أو كونه محذراً بما بعده فقط ليقال هو منصوب بتقدير ذروا أو احذروا لا على التحذير بل شرطه ذاك أو العطف عليه كما هنا على ما نص عليه مكي والكلام على حذف مضاف أي احذروا عقر ناقة الله أو المعنى على ذلك وإن لم يقدر في نظم الكلام وجوز أن يكون التقدير عظموا أو الزموا ناقة الله وليس بشيء {وسقياها} أي واحذروا سقياها فلا تتعرضوا بمنعها عنها في نوبتها ولا تستأثروا بها عليها وقيل الواو للمعية والمراد ذروا ناقة الله مع سقياها ولا تحولوا بينهما وهو كما ترى.
وقرأ زيد بن علي {ناقة الله} بالرفع فقيل أي همكم ناقة الله {وسقياها} فلا تعقروها ولا تستأثروا بالسقيا عليها.
{فَكَذَّبُوهُ} أي في وعيده إياهم كما حكي عنه بقوله تعالى: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] فالتكذيب لخبر مقدر ويجوز أن يكون لخبر تضمنه الأمر التحذيري السابق وهو الخبر بحلول العذاب أن فعلوا ما حذرهم منه وقيل إن ما قاله لهم من الأمر قاله ناقلاً له عن الله تعالى كما يؤذن بذلك التعبير عنه عليه السلام بعنوان الرسالة ومآل ذلك أنه قال لهم: إنه قال الله تعالى ناقة الله وسقياها فالتكذيب لذلك وهو وجه لا بأس به {فَعَقَرُوهَا} أي فنحروها أو فقتلوها وضمير الجمع للأشقى وجمعه على تقدير وحدته لرضا الكل بفعله قال قتادة بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم {فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} فأطبق عليهم العذاب وقالوا دمدم عليه القبر أي أطبقه وهو مما تكرر فيه الفاء فوزنه فعفل لا فعلل من قولهم ناقة مدمومة إذا لبسها الشحم وغطاها.
وقال في (القاموس) معناه أتم العذاب عليهم.
وقال مؤرج الدمدمة إهلاك باستئصال.
وفي الصحاح دمدمت الشيء ألزقته بالأرض وطحطحته.
وقرأ ابن الزبير {فدهدم} بهاء بين الدالين والمعنى كما تقدم {بِذَنبِهِمْ} بسبب ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب.
{فسواها} الضمير للدمدمة المفهومة من دمدم أي فجعل الدمدمة سواء بينهم أو جعلها عليهم سواء فلم يفلت سبحانه منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً أو هو لثمود والتأنيث باعتبار القبيلة كما في طغواها وأشقاها والمعنى ما ذكر أيضاً أو {فسواها} بالأرض.
{وَلاَ يَخَافُ} أي الرب عز وجل {عقباها} أي عاقبتها وتبعتها كما يخاف المعاقبون من الملوك عاقبة ما يفعلونه وتبعته وهو استعارة تمثيلية لأهانتهم وأنهم أذلاء عند الله جل جلاله والواو للحال أو للاستئناف وجوز أن يكون ضمير {لا يخاف} للرسول والواو للاستئناف لا غير على ما هو الظاهر أي ولا يخاف الرسول عقبى هذه الفعلة بهم إذ كان قد أنذرهم وحذرهم.
وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو على الواو للحال والضمير عائد على {أشقاها} أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه وهو أبعد مما قبله بكثير.
وقرأ أبي والأعرج ونافع وابن عامر {فلا يخاف} بالفاء.
وقرئ {ولم يخف} بواو وفعل مجزوم بلم.
هذا واختلف في هؤلاء القوم هل آمنوا ثم كفروا أو لم يؤمنوا أصلاً فالجمهور على الثاني وذهب بعض إلى أنهم آمنوا وبايعوا صالحاً مدة ثم كذبوه وكفروا فأهلكوا بما فصل في موضع آخر.
وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في فصوصه أنهم وقوم لوط عليه السلام لا نجاة لهم يوم القيامة بوجه من الوجوه ولم يساو غيرهم من الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا كقوم نوح عليه السلام بهم ولكلامه قدس سره أهل يفهمونه فارجع إليهم في فهمه إن وجدتهم.
وذكر بعض أهل التأويل أن {الشمس} إشارة إلى ذات واجب الوجود سبحانه وتعالى و{ضحاها} إشارة إلى الحقيقة المحمدية و{القمر} إشارة إلى ماهية الممكن المستفيدة للوجود من شمس الذات و{النهار} إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت به صفات جمال الذات وجلاله وكماله و{الليل} إشارة إلى وجود ما يشاهد من أنواع الممكنات الساتر في أعين المحجوبين للوجود الحق و{السماء} إشارة إلى عالم العقل و{الأرض} إشارة إلى عالم الجسم والنفس معلومة و{ناقة الله} إشارة إلى راحلة الشوق الموصلة إليه سبحانه و{سقياها} إشارة إلى مشربها من عين الذكر والفكر.
وقال بعض آخر {الشمس} إشارة إلى الوجود الحق الذي هو عين الواجب تعالى فهو أظهر من الشمس {الله نور السموات والأرض} [النور: 35].
وقال شيخ مشايخنا البندنيجي قدس سره:
ظاهر أنت ولكن لا ترى ** لعيون حجبتها النقط

و{ضحاها} إشارة إلى أول التعينات بأي اسم سميته والقمر إشارة إلى الأعيان الثابتة المفاضة بالفيض الأقدس أو {الشمس} إشارة إلى الذات و{ضحاها} إشارة إلى وجودها والإضافة للتغاير الاعتباري و{القمر} إشارة إلى أول التعينات و{النهار} إشارة إلى الممكنات المفاضة بالفيض المقدس و{الليل} إشارة إليها أيضاً باعتبار نظر المحجوبين أو {النهار} إشارة إلى صفة الجمال و{الليل} إشارة إلى صفة القهر والجلال و{السماء} إشارة إلى عالم اللطافة وذكر النفس بعد مع دخولها في هذا العالم للاعتناء بشأنها و{الأرض} إشارة إلى عالم الكثافة و{ناقة الله} إشارة إلى الطريقة و{سقياها} مشربها من عين الشريعة وقيل غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بطغواها (11)}
إن كانت جملة {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9] إلخ معترضة كانت هذه جواباً للقسم باعتبار ما فرع عليها بقوله: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم} أي حقاً لقد كان ذلك لِذلك، ولام الجواب محذوف تخفيفاً لاستطالة القسم، وقد مثلوا لحذف اللام بهذه الآية وهو نظير قوله تعالى: {والسماء ذات البروج} إلى قوله: {قتل أصحاب الأخدود} [البروج: 1 4].
والمقصود: التعريض بتهديد المشركين الذين كذّبوا الرسول طغياناً هم يعلمونه من أنفسهم كما كذبت ثمود رسولهم طغياناً، وذلك هو المحتاج إلى التأكيد بالقَسَم لأن المشركين لم يهتدوا إلى أن ما حل بثمود من الاستئصال كان لأجل تكذيبهم رسول الله إليهم، فنبههم الله بهذا ليتدبروا أو لتنزيل علم من علم ذلك منهم منزلة الإِنكار لعدم جَرْي أمرهم على موجَب العلم، فكأنه قيل: أقسم لَيصيبكم عذابٌ كما أصاب ثمود، ولقد أصاب المشركين عذاب السيف بأيدي الذين عادَوْهم وآذوهم وأخرجوهم، وذلك أقسى عليهم وأنكى.
فمفعول {كذبت} محذوف لدلالة قوله بعده: {فقال لهم رسول الله} والتقدير: كذبوا رسول الله.
وتقدم ذكْر ثمود ورسولهم صالح عليه السلام في سورة الأعراف.
وباء {بطغواها} للسببية، أي كانت طغواها سبب تكذيبهم رسول الله إليهم.
والطغوى: اسم مصدر يقال: طغا طَغْوا وطُغياناً، والطغيان: فرط الكِبر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويمدهم في طغيانهم يعمهون} في سورة البقرة (15)، وفيه تعريض بتنظير مشركي قريش في تكذيبهم بثمود في أن سبب تكذيبهم هو الطغيان والتكبر عن اتباع من لا يرون له فضلاً عليهم: {وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31].
و{إذْ} ظرف للزمن الماضي يتعلق بـ: {طغواها} لأن وقت انبعاث أشقاها لعقر الناقة هو الوقت الذي بدت فيه شدة طغواها فبعثوا أشقاهم لعقر الناقة التي جُعلت لهم آية وذلك منتهى الجُرأة.
و{انبعث}: مطاوع بَعَث، فالمعنى: إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك.
و{إذ} مضاف إلى جملة: {انبعث أشقاها}.
وقدم ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله: {فقال لهم رسول الله ناقة الله} لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جُزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقاً بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله، ويستفاد أيضاً من قوله: {فعقروها}.
و{أشقاها}: أشدها شِقوة، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قُدار (بضم القاف وتخفيف الدال المهملة) بن سالف، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء.
والفاء من قوله: {فقال لهم رسول الله} عاطفة على {كذبت} فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها، ويَكون معنى الكلام: كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذَّرهم من التعرض لها بسوء ومِن منعهم شربها في نوبتها من السُّقيا، وعطف على {فكذبوه}، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور ثانياً.
وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود.
ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} [البقرة: 36] فإن إزلالهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإِخراج لا قبله.
وقوله: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} [الأعراف: 4]، فيكون المعنى: كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها.
ثم فُصل ذلك بقوله: {فقال لهم رسول اللّه} إلى قوله: {فعقروها}، والعقر عند انبعاث أشقاها، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف وهو: {إذ انبعث أشقاها} مقدَّماً من تأخير.
وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعىً فيها أن ثمود اسم قبيلة.
وانتصب {ناقة اللَّه} على التحذير، والتقدير: احذروا ناقة الله.
والمراد: التحذير من أن يؤذوها، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات، والمرادُ: أحوالها.
وإضافة {ناقة} إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقاً للعادة.
والسقيا: اسم مصدر سَقى، وهو معطوف على التحذير، أي احذروا سقيها، أي احذروا غصب سقيها، فالكلام على حذف مضاف، أو أطلق السقيا علي الماء الذي تسقى منه إطلاقاً للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات.
والمراد: حالة تعرف من المقام، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها.
والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله: {ناقة اللَّه}، تكذيب ثانٍ وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد.
والإِنذار بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف (73) في قوله: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}.
وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإِنذار بالعذاب.
والعَقْر: جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحَر في لبته، فالعقر كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما.
{فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فسواها وَلاَ يَخَافُ عقباها}.
أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب.
والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى: {فأخذتهم الصيحة} [الحجر: 73]، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها.
فوزن دَمْدَم فَعْلَل، وقال أكثر المفسرين: دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض، يقال: دَمَّمَ عليه القبر، إذا أطبقه ودَمْدَم مكرر دَمَّم للمبالغة مثل كَبْكَب، وعليه فوزن دَمْدَم فَعْلَلَ.
وفرع على (دمدم عليهم) {فسواها} أي فاستَووا في إصابتها لهم، فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من (دمدم عليهم).
ومن فسروا (دمدم) بمعنى: أطبق عليهم الأرض قالوا معنَى (سواها): جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم، وجَعَلوا ضمير المؤنث عائداً إلى الأرض المفهومة من فعل (دمدم) فيكون كقوله تعالى: {لو تسوى بهم الأرض} [النساء: 42].
وبين {فسواها} هنا وقوله: {وما سواها} [الشمس: 7] قبله محسن الجناس التام.
والعقبى: ما يحصل عقِب فعل من الأفعال مِن تبعة لفاعِلِه أو مَثوبة، ولما كان المذكور عقاباً وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنّى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدَأ له بال حتى يثأر لنفسه، ولذلك يقولون: الثَّأْر المُنِيم، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذراً من أن يتمكن مغلوبُه من الثأر، أخْبَرَ الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبُه على أخذ الثأر منه، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين، وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة {فلا يخاف عقباها} تذييل للكلام وإيذان بالختام.
ويجوز أن يكون قوله: {فلا يخاف عقباها} تمثيلاً لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك مَن يثأر له فيكون المثَل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {فلا يخاف عقباها} بفاء العطف تفريعاً على {فدمدم عليهم ربهم} وهو مكتوب بالفاء في مصاحف المدينة ومصحف الشام...
ومعنى التفريع بالفاء على هذه القراءة تفريع العلم بانتفاء خوف الله منهم مع قوَّتهم ليرتدع بهذا العلم أمثالهم من المشركين.
وقرأ الباقون من العشرة: {ولا يخاف عقباها} بواو العطف أو الحال، وهي كذلك في مصاحف أهل مكة وأهل البصرة والكوفة، وهي رواية قرائها.
وقال ابن القاسم وابن وهب: أخرج لنا مالك مصحفاً لجدِّه وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كَتب المصاحف وفيه {ولا يخاف} بالواو، وهذا يقتضي أن بعض مصاحف المدينة بالواو ولكنهم لم يقرأوا بذلك لمخالفته روايتهم. اهـ.